فصل: خلافة الواثق بن المعتصم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ أبي الفداء (نسخة منقحة)



.خلافة المعتصم:

وهو ثامنهم، وبويع للمعتصم أبي إسحاق محمد بن هارون الرشيد بالخلافة، بعد موت المأمون، ولما بويع له، ونادوا باسم العباس بن المأمون، فأرسل المعتصم إلى العباس وأحضره، فبايعه العباس، ثم خرج إلى الجند فقال لهم قد بايعت عمي، فسكنوا، وانصرف المعتصم إلى بغداد، ومعه العباس بن المأمون، فقدمها مستهل شهر رمضان.
وفي هذه السنة توفي بشر بن غياث المريسي وكان يقول بخلق القرآن.
ثم دخلت سنة تسع عشرة ومائتين:
في هذه السنة أحضر المعتصم أحمد ابن حنبل، وامتحنه بالقرآن، فلم يجب إلى القول بخلقه، فجلده حتى غاب عقله، وتقطع جلده، وقيد وحبس.
وفيها توفي أبو نعيم الفضل التيمي وهو من مشايخ البخاري ومسلم. وكان مولده سنة ثلاثين ومائة، وكان شيعياً.
ثم دخلت سنة عشرين ومائتين:
في هذه السنة خرج المعتصم لبناء سامراء فخرج إلى القاطول، واستخلف على بغداد ابنه الواثق، وفيها قبض المعتصم على وزيره الفضل بن مروان، وكان قد استولى على الأمور، بحيث لم يبق للمعتصم معه أمر، وولى المعتصم مكانه محمد بن عبد الملك الزيات.
وفي هذه السنة توفي محمد الجواد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وهو أحد الأئمة الاثني عشر، عند الإمامية، وصلى عليه الواثق، وكان عمره خمساً وعشرين سنة، ودفن ببغداد عند جده مَوسى بن جعفر، ومحمد الجواد المذكور، هو تاسع الأئمة الاثني عشر، وقد تقدم ذكر أبيه علي الرضا، في سنة ثلاث ومائتين، وسنذكر الباقين إن شاء الله تعالى.
ثم دخلت سنة إحدى وعشرين ومائتين:
فيها توفي قاضي القيروان، أحمد ابن محرز، وكان من العلماء العاملين الزاهدين. وفيها توفي آدم بن أبي إياس العسقلاني، وهو من مشايخ البخاري في صحيحه.
ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين ومائتين،
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين ومائتين:
فتح عمورية وإمساك العباس بن المأمون وحبسه وموته:
في هذه السنة خرج ملك الروم نوفيل في جمع عظيم، فبلغ زبطرة وقتل وسبى ومثل بمن وقع في يده من المسلمين، ولما بلغ المعتصم ذلك، وأن امرأة هاشمية صاحت وهي في أيدي الروم وامعتصماه، استعظمه ونهض من وقته، وجمع العساكر وسار لليلتين بقيتا من جمادى الأولى من هذه السنة، أعني سنة ثلاث وعشرين ومائتين:
وبلغه أن عمورية هي عين النصرانية وهي أشرف عندهم من قسطنطينة، وأنه لم يتعرض أحد إليها منذ كان الإسلام، وتجهز المعتصم جهازاً لم يعهد قبله، مثله من السلاح وخيام الأدم، وغير ذلك، وسار المعتصم حتى نزل على نهر قريب من البحر، بينه وبين طرسوس يوم، وجعل عسكره ثلاث فرق، فرقة مع الإفشين خيذر ابن كاؤوس ميمنة، وفرقة مع أشناس ميسرة، وفرقة مع المعتصم في القلب، وبين كل فرقة وفرقة فرسخان، وأمرهم المعتصم بحريق القرى وتخريب بلاد الروم ففعلوا ذلك، حتى وصلوا إلى عمورية، فأول من قدمها أشناس، ثم المعتصم، ثم الإفشين، فأحدقوا بها، وكان نزوله عليها لست خلون من رمضان، من هذه السنة، وأقام عليها المنجنيقات، وجرى بين المسلمين والروم عليها قتال شديد يطول شرحه، وآخره أن المسلمين خربوا في السور مواضع بالمنجنيق، وهاجموا البلد وقتلوا أهله، ونهبوا الأموال والنساء، وأقبل الناس بالسبي والأسرى إلى المعتصم، من كل جهة، وأمر بعموربة فهدمت، وأحرقت، وكان مقامه على عمورية خمسة وخمسين يوماً، ثم ارتحل راجعاً إلى الثغور، فلما كان في أثناء الطريق، بلغ المعتصم أن العباس بن المأمون قد بايعه جماعة من القواد وهو يريد أن يثب عليه، ويأخذ الخلافة منه، فدعا المعتصم بالعباس بن المأمون، وأمسكه. وسلمه إلى الافشين خيذر، فلما وصل إلى منبج طلب العباس الطعام، فأكل ومُنع الماء حتى مات بمنبج، فصلى عليه بعض أخوته وأتم المعتصم سيره حتى دخل سامراء.
وفيها أعني سنة ثلاث وعشرين ومائتين، توفي ملك إفريقية زيادة الله إبراهيم بن الأغلب، وتولى بعده أخوه أبو عقال الأغلب بن إبراهيم بن الأغلب.
ثم دخلت سنة أربع وعشرين ومائتين:
في هذه السنة مات إبراهيم المهدي في رمضان، وصلى عليه المعتصم.
وفيها مات أبو عبيد القاسم بن سلام الإمام اللغوي، وكان عمره سبعاً وستين سنة.
ثم دخلت سنة خمس وعشرين ومائتين:
في هذه السنة توفي أبو دلف وعلي بن محمد المدايني المشهور.
ثم دخلت سنة ست وعشرين ومائتين:
في هذه السنة غضب المعتصم على الإفشين خيذر بن كاؤوس، وحبسه حتى مات في حبسه، وأُخرج فصُلب، أُحرقت جثته، والإفشين هو الذي قاتل بابك المجوسي، الذي استولى على جبال طبرستان مدة عشرين سنة، وعظم أمره، وهزم عدة مرار عساكر المعتصم، حتى انتدب له المعتصم الإفشين المذكور، فجرى له معه قتال شديد، في مدة طويلة، انتصر الإفشين وأخذ مدينة بابك البذ، وأسر بابك، وأحضره إلى المعتصم، فقتله والإفشين خيذر المذكور بفتح الخاء المعجمة وسكون الياء المثناة من تحتها والذال المعجمة وفي آخرها راء مهملة.
وفي هذه السنة توفي الهذيل محمد بن الهذيل بن عبد الله العلاف البصري شيخ المعتزلة وزاد عمره على مائة سنة.
وفيها توفي أبو عقال الأغلب بن إبراهيم بن الأغلب، وتولى بعده أخوه أبو العباس محمد بن إبراهيم بن الأغلب، فكانت ولاية الأغلب سنتين وتسعة أشهر.
ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومائتين:
وفاة المعتصم:
وفيها توفي أبو إسحاق محمد المعتصم بن هارون الرشيد، لثماني عشرة مضت من ربيع الأول بسامراء، وكانت خلافته ثمان سنين وثمانية أشهر ويومين، وكان مولده سنة سبع وتسعين ومائة، وهو ثامن الخلفاء، والثامن من ولد العباس، ومات عن ثمانية بنين، وثمان بنات، وكان أبيض، أصهب اللحية طويلها، مربوعاً مشرب اللون بحمرة، وهو أول من أضيف إلى لقبه اسم الله تعالى من الخلفاء، وكان المعتصم بالله، طيب الأخلاق، لكنه إذا غضب لا يبالي من قتل، وما فعل، وقد حكي أن المعتصم انفرد عن أصحابه في يوم مطر، فبينما هو يسير إذ رأى شيخاً مع حمار عليه حمل شوك، وقد توحل الحمار ووقع الحمل، وهو ينتظر من يمر عليه ويساعده على ذلك، فنزل المعتصم بالله عن دابته، وخلص الحمار، ورفع معه الحمل عليه، ثم لحقه أصحابه، فأمر لصاحب الحمار بأربعة آلاف درهم، وقال ابن أبي داود: تصدق المعتصم ووهب على يدي مائة ألف ألف درهم.

.خلافة الواثق بن المعتصم:

وهو تاسعهم، وبويع الواثق بالله هارون بن المعتصم في اليوم الذي توفي أبوه، وذلك يوم الخميس لثماني عشرة مضت من ربيع الأول، في هذه السنة أعني سنة تسع وعشرين ومائتين، وأم الواثق أم ولد رومية تسمى قراطيس. وفي هذه السنة هلك نوفيل ملك الروم، وملك بعده امرأته بدورة، وابنها ميخائيل بن نوفيل.
الفتنة بدمشق لما مات المعتصم، ثارت القيسية بدمشق، وعاثوا وأفسدوا، وحصروا أميرهم بدمشق. فبعث إليهم الواثق عسكراً مع رجاء بن أيوب فقاتلهم، وكانوا قد اجتمعوا بمرج راهط فقتل من القيسة نحو ألف وخمس مائة، وانهزم الباقي، وصلح أمر دمشق.
وفي هذه السنة توفي بشر بن الحارث الزاهد، المعروف بالحافي في ربيع الأول.
ثم دخلت سنة ثمان وعشرين ومائتين:
في هذه السنة فتح المسلمون عدة أماكن من جزيرة صقلية، وكان الأمير على صقلية محمد بن عبد الله بن الأغلب، وكان مقيماً في صقلية، بمدينة بلرم، لم يخرج منها، لكن يجهز الجيوش والسرايا فيفتح ويغنم، وكانت إمارته على صقلية تسع عشرة سنة، وتوفي في سنة سبع وثلاثين ومائتين في رجب على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وفي هذه السنة مات أبو تمام حبيب بن أوس الطائي الشاعر، وفيها أعطى الواثق أشناس، تاجاً ووشاحين.
ثم دخلت سنة تسع وعشرين ومائتين:
في هذه السنة حبس الواثق الكتاب، وألزمهم أموالاً عظيمة، وفيها توفي خلف بن هشام البزار المقرئ البزار، بالزاي المنقوطة والراء المهملة.
ثم دخلت سنة ثلاثين ومائتين:
في هذه السنة مات عبد الله بن طاهر بنيسابور وهو أمير خراسان وعمره ثمان وأربعون سنة، واستعمل الواثق موضعه ابنه طاهر بن عبد الله. وفي هذه السنة خرجت المجوس في أقاصي بلاد الأندلس، في البحر، إلى بلاد المسلمين، وجرى بينهم وبين المسلمين بالأندلس عدة وقائع، انهزم فيها المسلمون، وساروا يقتلون المسلمين، حتى دخلوا حاضر إشبيلية، ووافاهم عسكر عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس، ثم اجتمع عليهم المسلمون من كل جهة، فهزموا المجوس، وأخذوا لهم أربعة مراكب، بما فيها، وهربت المجوس في مراكبهم إلى بلادهم.
وفي هذه السنة مات أشناس التركي بعد عبد الله بن طاهر بتسعة أيام.
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين ومائتين:
فيها مات مخارق المغني وأبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي الفقيه، صاحب الشافعي، وكان قد حبس في محنة الناس بالقرآن المجيد، فلم يجب إلى القول بأنه مخلوق، وكان البويطي من الصالحين، وهو منسوب إلى بويط، قرية من قرى مصر. وفيها توفي محمد بن زياد المعروف بابن الأعرابي الكوفي، صاحب اللغة، وكان أبوه زياد عبداً سندياً أخذ الأدب عن المفضل الضبي صاحب المفضليات، ولابن الأعرابي المذكور عدة مصنفات منها: كتاب النوادر وكتاب الأنواء وكتاب تاريخ القبائل وغير ذلك، وولد في الليلة التي توفي فيها أبو حنيفة، سنة خمسين ومائة، والأعرابي منسوب إلى الأعراب، يقال رجل أعرابي إذا كان بدوياً، وإن لم يكن من العرب، ورجل عربي منسوب إلى العرب، وإن لم يكن بدوياً، ويقال رجل أعجم وأعجمي إذا كان في لسانه عجمة، وإن كان من العرب، ورجل عجمي منسوب إلى العجم، وإن كان فصيحاً، هكذا ذكر محمد بن عزيز السجستاني، في كتابه الذي فسر فيه غريب القرآن.
ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين ومائتين:
موت الواثق بالله:
وتوفي الواثق بالله أبو جعفر هارون بن المعتصم بالله، في هذه السنة، لست بقين من ذي الحجة بالاستسقاء وعولج بالإقعاد في تنور مسخن، ووجد عليه خفة، فعاوده وشدد سخونته، وقعد فيه أكثر من اليوم الأول، فحمي عليه، وأخرج منه في محفة، فمات فيها، ودفن بالهاروني، ولما اشتد مرض الواثق، أحضر المنجمين، فنظروا في مولده، فقدروا له أنه يعيش خمسين سنة مستأنفة، من ذلك اليوم، فلم يعش بعد قولهم إلا عشرة أيام، وكان أبيض مشرّباً حمرة، في عينه اليسرى نكتة بياض، وكانت خلافته، خمس سنين وتسعة أشهر وكسراً، وعمره اثنتان وثلاثون سنة وكان الواثق يبالغ في إكرام العلويين والإحسان إليهم، وفرق في الحرمين أموالا عظيمة، حتى أنه لم يبق بالحرمين في أيام الواثق سائل، ولما بلغ أهل المدينة موته، كانت تخرج نساؤهم إلى البقيع كل ليلة، ويندبن الواثق، لفرط إحسانه إليهم، وسلك الواثق مذهب أبيه المعتصم، وعمه المأمون في امتحان الناس بالقرآن المجيد، وألزمهم القول بخلق القرآن، وأن الله لا يُرى في الآخرة بالأبصار.

.خلافة المتوكل جعفر بن المعتصم:

هو عاشرهم، ولما مات الواثق، عزم كبراء الدولة على البيعة لمحمد بن الواثق، فألبسوه قلنسوة ودرّاعة سوداء وهو غلام أمرد قصير، فلم يروا ذلك مصلحة، فتناظروا فيمن يولونه، وذكروا عدة من بني العباس، ثم أحضروا المتوكل، فقام أحمد بن أبي داود وألبسه الطويلة، وعممه، وقبل بين عينيه وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين. فبويع بالخلافة في يوم مات الواثق فيه، لست بقين من ذي الحجة، سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، وكان عمر المتوكل لما بويع ستَاً وعشرين سنة.
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائتين:
القبض على ابن الزيات:
في صفر من هذه السنة، قبض المتوكل على محمد بن عبد الملك الزيات، وحبسه وأخذ جميع أمواله، وعذبه بالسهر، ثم حطه في تنور خشب، فيه مسامير حديد، أطرافها إلى داخل التنور، يمتنع من يكون فيه من الحركة، ولا يقدر على الجلوس، فبقي كذلك محمد بن الزيات أياماً، ومات لإحدى عشرة ليلة بقيت من ربيع الأول من هذه السنة، وكان ابن الزيات هو الذي عمل هذا التنور، وعذب به ابن أسباط المضري وأخذ أمواله، وكان ابن الزيات صديق إبراهيم الصولي، فلما ولي ابن الزيات الوزارة صادره بألف ألف درهم، فقال الصولي:
وكنت أذم إليك الزمان ** فأصبحت منك أذم الزمانا

وكنت أعدك للنائبات ** فها أنا أطلب منك الأمانا

وفي هذه السنة ولى المتوكل ابنه المنتصر الحرمين واليمن والطائف، وفيها توفي أبو زكريا يحيى بن معين بن عون بن زياد بن بسطام المري البغدادي المشهور، وكان إماماً حافظاً، قيل إنه من قرية نحو الأنبار تسمى نقيا، وهو صاحب الجرح والتعديل، وكان الإمام أحمد بن حنبل شديد الصحبة له، وكانا مشتركين في الاشتغال بعلوم الحديث، وذكر الدار قطني يحيى بن معين المذكور في جملة من روى عن الإمام الشافعي. وولد يحيى بن معين المذكور في سنة ثمان وخمسين ومائة، وتوفي في هذه السنة أعني سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، في ذي القعدة، وقيل ذي الحجة رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين ومائتين:
فيها توفي محمد بن مبشر، أحد المعتزلة البغداديين، وأبو جيثمة زهر المحدث، وعلي بن عبد الله بن جعفر المعروف بابن المديني الحافظ، وهو إمام ثقة.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ومائتين:
في هذه السنة، ظهر بسامراء رجل يقال له: محمود بن فرج، وادعى النبوة، وزعم أنه ذو القرنين، وتبعه سبعة وعشرون رجلاً، فأُتي به وبأصحابه إلى المتوكل، فأمر أصحابه فصفعه كل واحد عشر صفعات، وضرب حتى مات من الضرب، وحبس أصحابه.
وفي هذه السنة مات الحسن بن سهل وعمره تسعون سنة، وكان قد شرب دواء فأفرط عليه القيام حتى مات، وفيها مات إسحاق بن إبراهيم الموصلي، صاحب الألحان والغناء. وفيها مات سريح بن يونس بن سريح بالسين المهملة، وفيها وقيل في السنة التي تليها، توفي عبد السلام بن رغبان- بالغين المنقوطة- الشاعر المشهور المعروف بديك الجن، وكان يتشيع، وعاش بضعاً وسبعين سنة، ومن جيد شعره أبياته التي من جملتها:
وقم أنت فاحثث كأسها غير صاغر ** ولا تسق إلا خمرها وعقارها

مشعشة من كف ظبي كأنما ** تناولها من خده وأدارها

ثم دخلت سنة ست وثلاثين ومائتين:
في هذه السنة أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهدم ما حوله من المنازل ومنع الناس من إتيانه، وكان المتوكل شديد البغض لعلي بن أبي طالب، ولأهل بيته، وكان من جملة ندمائه عبادة المخنث، وكان يشد على بطنه تحت ثيابه مخدة، ويكشفَ رأسه، وهو أصلع، ويرقص ويقول: قد أقبل الأصلع البطين، خليفة المسلمين، يعني علياً، والمتوكل يشرب ويضحك، وفعل كذلك يوماً بحضرة المنتصر، فقال: يا أمير المؤمنين، إن علياً ابن عمك، فكل أنت لحمه إذا شئت، ولا تخلي مثل هذا الكلب وأمثاله يطمع فيه، فقال المتوكل للمغنين غنوا:
غارا الفتى لابن عمه ** رأس الفتى في حرامه

وكان يجالس من اشتهر ببغض علي، مثل ابن الجهم الشاعر، وأبي السمط من ولد مروان بن أبي حفصة، من موالي بني أمية وغيرهما، فغطى ذمه لعلي على حسناته، وإلا فكان من أحسن الخلفاء سيرة، ومنع الناس عن القول بخلق القرآن. وفي هذه السنة توفي منصور بن المهدي.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائتين:
في هذه السنة مات محمد بن عبد الله أمير صقلية، وتولى موضعه على جزيرة صقلية العباس بن الفضل بن يعقوب بن فزارة، وفتح فيها الفتوحات الجليلة، وفتح قصر يانه، وهي المدينة التي بها دار الملك بصقلية، وكان الملك قبلها يسكن مرقوسه، فلما أخذ المسلمون بعض الجزيرة، انتقل الملك إلى قصر يانه. لحصانتها، ففتحها العباس في هذه السنة، يوم الخميس منتصف شوال، وبنى فيها مسجداً في الحال، ونصب فيه منبراً وخطب وصلى فيه الجمعة.
وفيها توفي حاتم الأصم الزاهد المشهور البلخي، ولم يكن أصم؛ وإنما سمي به لأن امرأة جاءت تسأله عن مسألة فخرج منها صوت فخجلت، فأوهمها أنّه أصم، وقال: ارفعي صوتك، فسرّت المرأة ظناً منها أنه لم يسمع حبقتها، فغلب عليه هذا الاسم.
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين ومائتين:
في هذه السنة توفي عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل بن معاوية بن هشام بن عبد الملك الأموي، صاحب الأندلس، في ربيع الآخر، وكان مولده سنة ست وسبعين ومائة، وولايته إحدى وثلاثين سنة وثلاثة أشهر، وكان أسمر طويلاً عظيم اللحية، يخضب بالحناء، وخلف خمسة وأربعين ابناً، ولما مات ملك بعده ابنه محمد بن عبد الرحمن.
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين ومائتين:
فيها توفي محمود بن غيلان المروزي، وهو من مشايخ البخاري ومسلم.
ثم دخلت سنة أربعين ومائتين:
في هذه السنة مات ابن الإمام الشافعي، واسمه محمد، وكنيته أبو عثمان، وكان قاضي الجزيرة، وروى عن أبيه وعن ابن عينية، وكان للشافعي ولد آخر اسمه محمد أيضاً، مات بمصر سنة إحدى وثلاثين ومائتين:
وفيها توفي أبو ثور إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي، الفقيه البغدادي، صاحب الإمام الشافعي، وناقل أقواله القديمة عنه، وكان على مذهب أهل الرأي، حتى قدم الشافعي إلى العراق، فاختلف إليه واتبعه، ورفض مذهبه الأول.
ثم دخلت سنة إحدى وأربعين ومائتين:
في هذه السنة توفي الإمام أحمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس، ينسب إلى معد بن عدنان، وكان وفاته في ربيع الأول وروى عنه مسلم، والبخاري، وأبو داود، وإبراهيم الحرثي، وكان مجتهداً ورعاً زاهداً صدوقاً، قال الشافعي: خرجت من بغداد، وما خلفت بها أحداً أتقى ولا أورع ولا أفقه من أحمد بن حنبل.
ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين ومائتين:
فيها مات أبو العباس محمد بن إبراهيم بن الأغلب أمير إفريقية، وولي بعده ابنه أبو إبراهيم أحمد بن محمد المذكور.
وفيها توفي القاضي يحيى بن أكثم بن محمد بن قطن من ولد أكثم بن صيفي التميمي، حكم العرب، وكان يحيى المذكور عالماً بالفقه بصيراً بالأحكام، وهو من أصحاب الشافعي، وكان إماماً في عدة فنون، وكان ذميم الخلق، وابن أكثم المذكور، هو الذي رد المأمون عن القول بتحليل المتعة. فقال ابن أكثم لبعض الفضلاء الذي كانوا يعاشرون المأمون، ومنهم أبو العيناء: بكروا غداً إليه، فإن وجدتم للقول وجهاً فقولوا، وإلا فاسكتوا، حتى أدخل. قال أبو العيناء: فدخلنا على المأمون وهو يسأل ويقول وهو مغتاظ: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى عهد أبي بكر رضي الله عنه، وأنا أنهي عنهما، ومن أنت يا جعل حتى تنهي عما فعله رسول الله، فأوجم أولئك، حتى دخل يحيى بن أكثم فقال له المأمون: أراك متغيراً، فقال يحيى: هو غم لما حدث من النداء بتحليل الزنا يا أمير المؤمنين. فقال المأمون: الزنا. فقال: نعم. المتعة زنا. قال: ومن أين قلت هذا. قال: من كتاب الله وحديث رسوله. قال الله تعالى: {قد أفلح المؤمنون} إلى قوله: {والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} [المؤمنون: 5] يا أمير المؤمنين زوجة المتعة ملك يمين؟ قال: لا. قال: فهي الزوجة ترث وتورث؟ قال: لا. قال: وهذا الزهري روى عن عبد الله والحسن ابني محمد بن الحنفية عن أبيهما عن علي بن أبي طالب قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنادي بالنهي عن المتعة وتحريمها، بعد أن كان أمر بها، فقال المأمون: أمحفوظ هذا عن الزهري؟ قال: نعم. رواه عنه جماعة، منهم مالك رضي الله عنه، فقال: المأمون: أستغفر الله، فبادروا بتحريم المتعة، والنهي عنها، ولم يكن في يحيى بن أكثم ما يعاب به سوى ما يتهم به من محبة الصبيان، وقد قيل فيه بسبب ذلك عدة أشعار منها:
وكنا نرجى أن نرى العدل ظاهراً ** فاعقبنا بعد الرجاء قنوط

متى تصلح الدنيا ويصلح أهلها ** وقاضي قضاة المسلمين يلوط

ولأحمد بن نعيم في ذلك:
أنطقني الدهر بعد إخراس ** لنائبات أطلن وسواسي

لا أفلحت أمة وحق لها ** بطول نكس وطول إتعاس

ترضى بيحيى يكون سايسها ** وليس يحيى لها بسواس

قاضٍ يرى الحد في الزناء ولا ** يرى على من يلوط من باس

يحكم للأمرد العذير على ** مثل جرير ومثل عباس

فالحمد لله كيف قد ذهب ال ** عدل وقل الوفاء في الناس

أميرنا يرتشي وحاكمنا ** يلوط والرأس شر ما راس

لا أحسب الجور ينقضي ** وعلى الأمة وال من آل عباس

وأكثم بالثاء المثناة من فوقها والثاء المثلثة كلاهما لغتان، وهو الرجل العظيم البطن، والشبعان أيضاً.
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين ومائتين:
في هذه السنة سار المتوكل إلى دمشق في ذي القعدة. وفيها مات إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول الصولي وفيها توفي الحارث بن أسد المحاسبي الزاهد، وكان قد هجره أحمد بن حنبل لأجل علم الكلام، فاختفى لتعصب العامة لأحمد، فلم يصل عليه غير أربعة أنفس.
ثم دخلت سنة أربع وأربعين ومائتين:
في هذه السنة وصل المتوكل إلى دمشق ودخلها في صفر، وعزم على المقام بها، ونقل دواوين الملك إليها، فقال يزيد ابن محمد المهلبي.
أظن الشام يشمت بالعراق ** إذا عزم الإمام على انطلاق

فإن تدع العراقَ وساكنيه ** فقد تبكي المليحةُ بالطلاق

ثم استوبأ المتوكل دمشق، واستثقل ماءها، فرجع إلى سامراء وكان مقامه بدمشق شهرين وأياماً، وفيها غضب المتوكل على بختيشوع الطبيب، وقبض ماله ونفاه إلى البحرين. وفيها قتل المتوكل أبا يوسف يعقوب بن إسحاق المعروف بابن السكيت، صاحب كتاب إصلاح المنطق في اللغة وغيره وكان إماماً اللغة والأدب، قتله المتوكل لأنه قال له أيمّا أحب إليك: ابناي المعتز والمؤيد، أم الحسن والحسين، فغض ابن السكّيت عن ابنيه، وذكر عن الحسن والحسين ما هما أهله، فأمر مماليكه فداسوا بطَنه، فحمل إلى داره فمات بعد غد ذلك اليوم. وقيل إن المتوكل لما سأل ابن السكيت عن ولديه، وعن الحسن والحسين، قال له ابن السكيت: والله إن قنبراً خادم علي خير منك ومن ولديك. فقال المتوكل سلوا لسانه من قفاه، ففعلوا به ذلك، فمات لساعته، في رجب في هذه السنة المذكورة، وكان عمره ثمانياً وخمسين سنة والسكيت بكسر السين المهملة وتشديد الكاف فعيل، اسم لكثير السكوت والصمت.
ثم دخلت سنة خمس وأربعين ومائتين:
في هذه السنة توفي ذو النون المصري، في ذي القعدة، وأبو علي الحسين بن علي، المعروف بالكرابيسي، صاحب الشافعي.
ثم دخلت سنة ست وأربعين ومائتين:
فيها تحول المتوكل إلى الجعفري، وكان قد ابتدئ في عمارته سنة خمس وأربعين ومائتين، وأنفق عليه أموالاً تجل عن الحصر، وكان يقال لموضعه الماحورة وفيها توفي دعبل بن علي الخزاعي الشاعر، وكان مولده سنة ثمان وأربعين ومائة، وكان يتشيع.
ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائتين:
مقتل المتوكل في هذه السنة قتل المتوكل جماعة بالليل بالسيوف، وقت خلوته، باتفاق من ابنه المنتصر، وبغا الصغير الشرابي، وقتل في مجلس شرابه، وقتل معه وزيره الفتح ابن خاقان، وكان قتله ليلة الأربعاء لأربع خلون من شوال، وكانت خلافته أربع عشرة سنة وعشرة أشهر وثلاثة أيام، وعمره نحو أربعين سنة، وكان أسمر خفيف العارضين.